مدني الملونة
لطالما نظرت إلى الفن على أنه واحة لا تصلها إلا قوافل المصطفين من البشر أولئك الذين تقودهم بوصلة الروح وتدفعهم أشرعة الريح. أولئك الذين أزيل عن عيونهم القذى، وانزاحت عن بصائرهم الغشاوات التي أسدلتها عواصف الرمال المحاصرة للأرواح والأجساد التي تمضي عبر القفار شاقة طريقها تنوء بأحمال الحياة وهمومها. والفن في رأيي ليس وسيلة وأداة للتعبير وللتخاطب مع الآخر فحسب. إنني أرى فيه تلك القوة الخفية المستعصية الكامنة في شغاف الروح. تلك التي تصنع عالما موازيا للواقع المعاش ومتقاطعا معه في آن معا. لذلك فإنني لست ممن يحاكون الواقع وينقلونه نقلا تصويريا مباشرا. إذ كثيرا ما ألجأ إلى استخدام الرمز الذي أرى فيه مساحات تعبيرية شاسعة بحجم السماوات. فأحلق فيها كطائر أسطوري يملك ألف جناح. فأطرق ما شئت من الجهات وأستعير من بريق المجرات بنجومها وكواكبها ما أشاء. مازجا كل ذلك بما يجري حولي من مشاهد مختلفة. لست ممن يسعون إلى استخدام الرمزية المعتمة التي لا توصل إلا إلى الثقوب السوداء التي تبتلع بريق النجمات المتلألئة. رموزي استمدها مما تقودني إليه روحي حين تجنح خارج أسوارها المحكمة.
لطالما سعيت في أعمالي إلى مقاومة الصمت المطبق بكل ثقله وخفته على روح الإنسان، ذلك المختبئ دوما خلف الجدران وأمامها. أنكش ذلك الصمت وأبعثر مفرداته وأشيائه على بياض اللوحات وبهائها فتتدفق سيولي في كل أروقة العمل الفني فتحطم تلك الجدران أو تعيد بنائها. فيمتلئ حيز اللوحة بروائح المدن والقرى، بليلها وبنهارها، بشموسها وأقمارها، ببصمات أناسها ونقوشهم على جدرانها، وبذلك القدر الذي يمضي بالإنسان قدما إما نحو لب الأرض أو باتجاه عنان السماء. الفن وجه الحياة الأوحد.
البيئة الشعبية التي أرصدها في أعمالي ببيوتها وأزقتها وكائناتها هي استكناه للحب والكره والحزن واليأس والابتهاج التي تهيمن على أرواح البشر الذين تلتقطهم عدسة عيني التي لا تكف عن البحث عن شيء لا تعلمه إلا الروح الخفية. تدهشني كثيرا بصمات الإنسان على الجدران. أرى أنها انعكاس وتسجيل لما تختزنه الذاكرة من مشاعر وأحداث وهموم. أليست البصمات أبرز ما يميزنا عن بعض نحن بنو البشر؟ تجذبني أيضا الكتابات والرموز المنقوشة على الجدران وكذلك النقوش التقليدية على الأبنية القديمة وعلى الأزياء والأدوات القديمة. كل هذه العناصر تملأ سماوات لوحاتي، تنسكب فيها كماء المطر لحظة ملامستي لسطح اللوحة. لست منبتا من سياقي الذي عثرت فيه على نفسي ولذلك فأعمالي تعكس بعضا من أوجه وتجليات ذلك السياق الإنساني بكل جماله وقبحه.
يدهشني الشعر واستمد منه أنساغ لوحاتي ومفرداتها العصية والخفية. إنني أدين للشعر تعميقه لرؤيتي لكل عناصر الكون ومخلوقاته. يأخذني شعر المتصوفة إلى أصقاع لم تكن لتطأها حوافر خيولي لولاه، فأدخل عالما حلميا مليئا بمدن ملونة غائرة في تضاعيف ومنعرجات الكون. لست ضد الجغرافيا لكن روحي تأبى أن تحددها أمكنة بعينها. لذلك فمدني الملونة يمكن أن يراها المرء في كل مكان. لست أسعى في هذا الكتاب إلا إلى إشعال فتيل قنديل صغير يمكّنكم من السير في أزقة مدني الملونة. تلك المدن التي لم تكن لتنشأ وتتلون لولا ذلك الإلهام الشفيف الذي صنعته في داخلي أمي التي حلقت روحها نحو السماوات العلية. أمي التي كانت تجمع قصاصات الجرائد التي تنشر لوحاتي لتخبأها تحت وسادتي. لا زلت أتساءل حتى اللحظة عن سر اختيارها لهذا المكان.. للوسادة دونا عن غيرها!!! مدني لم أكن لأبنيها كذلك لولا يد أبي.. تلك اليد الحانية التي أجدها تربت على كتفي في كل لحظة، وعند كل منعطف، وعند كل نجمة أقتطفها من السماء لأضعها في فضاء لوحتي. بعينيهما وأصابعهما شيدت ولونت كل مدني الحالمة.
مـوسى عمـــــر
مسقط
ديسمبر 2006م