مشاهد أسلوبية تحتفظ بخصوصيتها العمانية
موسى عمر أبدع المدينة العجيبة في لوحات

ليست المدن منازل متراصة وشرايين من الطرق وحسب فهي أبعد من هذه التصورات وصولا إلى مفهوم نفساني يعكسه فضاء المعنى الذي يعمل عليها الفنان العماني موسى عمر رغم انقياده العفوي للجاذبية الأرضية التي تؤمن كتلة صلبة أسفل عمله الفني بمقابل الفضاء الأعلى المفتوح على رموز وأشارات تحاكي عزلة التفاصيل السفلية فأساطيرها الوحشية وصراخ تكوينتها الكابوسية وكل ما يجعل الفنان يؤلف بنائياته الممتدة في أعماله المتنوعة ، متنقلا بين الخط والكتلة ، اللون والرمز ومختلف مشاهدات العين التي تحاول ايجاد معادلات بصرية على صلة بالأحاسيس التي تجعل المدينة تسكن قلوب الناس رغم تناقضاتها الحادة ترافقاتها الحميمة كما يرى الفنان نوري الرواي ، والذي يؤكد " أن المدينة العجيبة التي أبدعها الفنان موسى عمر ضمن قوانينه العفوية الخاصة تسكن عالما رؤيويا تشكل على مفترقاته اعترافات المشاهدين وحواراتهم الصامتة ، فيما تمنحهم الدواخل فرصة التنفس في فضاء أخر يفرضه حق النفتاح والامتداد خلف (عالم المرايا)حيث تتوزع صورة وأشكاله المتناثرة على مساحة حدسية واسعة من الصعب تمثلها أو تقليدها لانها تتمثل في كينونة هي أقرب إلى جوانب الحب منها إلى أي شيء أخر، غير أن ما تراه العين في هذه المشاهد ليس إلا تلك الأنعكاسات الأولى للفطرة الأنسانية التي أعترف بها الفن الحديث وضمها إلى مكتشفاته الجديدة ثم أحلها المقام الأعلى من سلم الأولويات سواء بسواء م المبتدعات العفوية للطفولة .

لحظات السرد

أحمر مثلثي يتشبث بالبعد الأرضي للوحة ، فيما يظهر الجانبان حاشية زرقاء تبني شكلا فاصلا بين الأرض والأحاديث اللامتناهية في ثلثي اللوحة المزدحمة بحركة جسد الفنان وهو يحاول فتح الطريق أمام السرد الداخلي لمراحلة من مراحل بناء العمل أو تلقيه ، فيما سيكون على المشاهد تمثل طرق أخرى لولوج مدنه بالاستناد إلى الرواية البصرية التي تفعل الحوار التخيلي إلى جانب الحذر الذي يتملك المشاهد وهو يبدل موقع عينه على التفاصيل المتناهية في الدقة وكأنها تحاول أن تحفظ سلسلة المعلومات المتبدلة في السطح الأولي أو بشرة الصباغيات الحرة التي تحاول حصر المعنى في فعل بصري يمثل ضرورة واضحة لتخصيص استعدادنا للاصطدام بما تحاول اللوحة أن تنقله أو تحاول الرموز الخطية والشكلية أن تنقله كونه يعني استمرار الحوار البصري بين ما انجز وما يمكن أن يفعله الخيال اللحظي وهو يقلب الشريط المصور إلى لقطة واحدة تقوم مقام الهسيس أو الضجيج أو الصمت .

إنه الأنسجام الجمالي يقدمه الفنان في موقع معين ليعرضه دفعة واحدة لمرة واحدة بحيث تغدو العلاقة الحميمة بالحياة تتجاوز الخطف اللحظي لصلتنا بتعقيدات المدينة وتقتيرها الحسي ، فهو يرخي موهبته أغلب الأحيان على حالات حلمية تولد تلوينا روحيا وعاطفيا عميقا يرافق التوقيعات التي نمنحها للصورة المقصودة والجو الاسترجاعي لتخيلنا المسبق عن المدن حيث يكون على كل منا بناء مدينته الخاصة ورؤية ذكرياته تتمثل بالمادة المشكلة للحظات السرد الودية التي تسرعها خصوبة الشعور الشخصي بالمنجز الذي يفيض بمشهدية الحياة وتراتب أحداثها وأفعالها باعتبارها عبارة بصرية نبتدئ بها قراءتنا لأجواء موسى عمر الدلالية .
أن القراءة البصرية الأولية لأعمال الفنان تؤكد ما ذهب إليه حسين عبيد حين كتب بأننا نرى في مدن موسى عمر "مشاهد أسلوبية تصب فيها ايقاعات مترادفة تحتفظ بنقائها التعبيري وخصوصيتها العمانية من خلال هندسة أزقتها المتماسكة التي تنفرد باتصلالات بصرية عالية لمعالم وأبعاد طقوسية لأشكال تمثل أصواتا موسيقية تمارس محاور لونية ذات معادلات جريئة من البني المحروق والأبيض الممزوج بمواد جيرية تحمل تنويعات من الخطوط المستقيمة والمتعرجة في اتجاهاتها بنظم تقنية عالية تهدف إلى اعطائها تأثيرات صادقة حول انشائيات مكانية عجيبة تتزاحم فيها النوافذ والأبواب المفتوحة والأشكال الشعبية العرائس والموتيفات المتداخلة بعضها ببعض لتشكل وحدة عضوية رائعة وسيادة ديناميكية متقدة تربط بين العناصر البصرية المتعددة من جانب والخلفيات المستخدمة من جانب أخر".

التشكيلي المجالي

يتحقق وجود المدينة البصرية بتحقق المجال البصري بأهم سماته الوجودية المميزة له كما أن السيطرة على التحقق العقلي لفهم المدينة أنما يأتي من السعي الجمالي إلى الكمال ولهذا فأن استحسان موسى لهيكل المدينة أنما يعكس استحسانه لتناسب جوهرها والبحث عن قيمة تناسقية تؤدي إلى وعي كل ما هو غائب عن التواجد في التفاصيل العقلانية المحسوسة ما يعني أن الفنان في سعيه إلى الجميل أنما يحاول أبعاد ضده أي الأنزياح إلى مقتضى طباع الأشياء في سعيه إلى الكمال .
لقطة المدينة المتغيرة من صورة إلى صورة تعبيرية أخرى في أعمال موسى عمر أنما تحقق توليفا شخصيا للمجال من جانبين أولهما حركي مرئي وثانيهما كامن سردي وبالنتيجة فإن التدرج بين هاتين الحالتين يستند في طرحه على العجائن والملامس والألوان بكامل اتصالها المعماري بالثراء الروحي .
قد يكون هذ الأمر واضحا لي أكثر بعد زيارتي لسلطنة عمان وملاحظتي لعديد من الأمور المتعلقة بالمكان وتفصيله السحرية الاخاذة حيث تستدعي هذه الأماكن فيهما لتصميمها الذي تحققت عليه باعتباره لغة شفافة بغاية البساطة والوضوح تملك إلى جانب حدوثيتها ومعاصرتها ديمومته التاريخية بحيث يمكن الاشارة إلى الاختصارات والاختزالات التي تشي بخصوصية الطابع وتفهم القوة الروحية الكامنة وراء ذلك كاملة والتي يستفيد موسى عمر منها ايما استفادة عبر وعيه للطريقة التشكيلية التي ينظم يها ابصاره لمكونات المدينة باعتبارها مكانا مبصرا من جهة ومكانا مؤلفا تأليفا داخليا عميقا من جهة أخرى .
أن المفردات العمانية التي تفتحت عليها عين الفنان كالحصير العماني والخيش وزخارف الأواني وغير ذلك يقدم لها الفنان بالأكريليك والريلييف وهي خامات تتوافق مع خامات البيئة ويلجأ الفنان لاستخدام ألوان أقرب إلى منطق القرية العمانية أن لم تكن ألوانا طينية لربط الحالة بالإرض أن مدن موسى تعلن عن وجودها دائما من خلال طغيان تأثيرها في روح الفنان لذلك لا يكاد يخلو عمل من أعماله من المفردات الواضحة للموروث العماني فالاشكال الهندسية تأخذ لديه منحي دلاليا مغايرا يتحقق من خلال علائق ديناميكية تربط في ما بينها فضلا عن الدلالة الفولكولورية لهذه الأشكال فهو يرسم روح الاشياء وروح المعنى لا روح الكائن محددا المشاعر والقيم شكلا ولونا من خلال دراما لونية تبحث عن مهارة بصرية تكفل للمتلقي المتعة وللمبدع التواصل وما التشكيل سوى لحظة بوح جميلة بسكونها وهواجسها وضيمها وأحلامها وألونها هكذا ينظر الشاعر ماهر حسن إلى تجربة موسى ملتقطا جانبا شعريا مرهفا بينما يرى الناقد المصري عز الدين نجيب أن موسى استطاع "توظيف ألوانه ذات البريق والعجائن السميكة في خلق تضاريس وحوار بصري بين خطوط ومساحات متباينة النصاعة والبروز لمدائن عربية تقع في المنطقة بين الحلم والواقع حوار يستدعي بقوة الخيال مشاهد من عالم ألف ليلة وليلة موشاة بزخارف محلية متوارثة أقرب إلى التطريز على ثوب عروس تتناغم مع فتحات النوافذ والأبواب والشرفات في ايقاع تطريبي موقع على طبول بدوية وإذا نشعر بأننا نعرف هذه المدائن وأن أختلفت التفاصيل ، فإننا سرعان ما نندمج في ايقاعها السحري متوافقين مع أنفسنا ".
المدينة باطن أخر للعقل وللأحاسيس والمشاعر والأحلام نستشعر من خلالها جراحنا وافراحنا والقلوب التي نفقدها أن التشكيلي العماني موسى عمر وهو يحاول النظر من الأعلى أو من الأسفل إلى المدينة إنما يحاول أن يعكس حقيقة ما علينا أن نراها بملء أعيننا الحقيقية في تجلياتها المختلفة وألوانها التي تجعل المجالات أكثر بهاء وسرية باستقطابها للضوء العماني الأخاذ.





ناقد وفنان من سوريا
د.طلال معلا