المدن الحالمة
عن المدينة ..عن تلك المفردة الممتدة إلي تخوم البصري الذي ربما بصر أو أستل من ذاكرة طفولية لم تشح مياه منابعها بعد يحدثنا عن عنصر حاد ومتأجج كمخزون بركاني هائل لا يهدأ بعد العرامة والوهج إلاّ بمجس الخط واللون يروي لنا حكاياته.
مخططات ( مدينية صرفة ) صاغ في لحظات اللاوعي قوانينها فراح بها يهجس صمت ناسها ويتفاعل مع تعرجات أزقتها وحدود حاراتها . إنها مدنه مرسومة ومهندسة لمشاهد حية تتنقل داخل مفاصلها العين والقلب بين خط ومساحة ولون وإشارة.
الفنان موسي عمر من الفنانين العمانيين الشباب الطالعين والبارزين علي الساحة الفنية العمانية وممن حققوا حضورا جاد المكانة , لافت المستوي.
مبهورا بطقس المدينة بكل تجلياتها ... جنباتها .. بالخارج منها والداخل , مهووسا بالغوص في كل ترميزاتها حد اللب والفحوى , بإشاراتها , بالكامن والظاهر من دلالات عمقها تلك التي ولا ريب تفضي بك إلي عوالم أصحابها – سخية العطاء – إلي هواجسهم وأفراحهم وإلي ما يوميء إلي براءتهم الدفينة المرسومة بلون السحن علي جدرانها , فلا صراط للقراءة والمعرفة والرؤية إلاّ عبر مرصد فعله الإبداعي ( نصه البصري ) كوة الرؤية والنفاذ إلي الداخل.. إلى عوالمها.
يأخذنا موسي عمر بخفة طيور – مطرح – محلقة محملقة ترقب الأسواق العتيقة , تداري القلاع والمآذن وتشير إلي القرية والمدينة وإلي طرقات وأزقة الحلم الأولي التي ما انفكت تحضه وتمده بزاد ورونق الفعل البهي ( الرسم راصدا به توجسات الناس في حضورهم الغائب وملامحهم المتوارية وجدرانها المشكّلة بفعل الزمن والمتبقي من طلل تحفظه الذاكرة والمزركش من أبواب والجميل الفاقع مما يرتدين النسوة من ألبسة تضفي جوا من الزهوة الغناء والغنى عكسها علي معماره ممثلة بموتيفات لونية وخطوط تمضي بحرية في تلك المساحات بين مخفي وطالع .. بين مرتفع ونازل تبث العتمة والنور في مفاصل الغائر والنافر بعمق مستحوذة على روح الطفل الفنان موسي عمر الذي دلف يرصد حركتها وخططتها وخطوطها ويشيد معالمها مازجا الحديث بالقديم مشيدا بناء آخر بمتخيل لا يشبه إلا ذاته، بتصورات الحالم أبدا بأسلوب طفولي باهر .. شفيف متروك إليه عنان المخيلة يسبح في تلك الفضاءات السرمدية لاعبا عابثا ( خاضع لقوانين براءته وعفويته ) يثبت خطوطه بثقة العارف , يخربش بأصابع تنطلق بخفة كما يحلو لها غير عابه أو مكترث لغير العيش في عوالم مملكته بحرية تامة.
يرسم ما تمليه عليه المخيلة المنفلتة منذ الصبوات الأولي مستخدما مواد صلصالية – ذات صلة يالأصل – إن جاز لنا القول ( هي المعاجين ) يلعب بها، يعيد صياغتها بخفة متناهية العبث فمرة يحضر الخط غائرا خافتا يشير إلي التواري وأخري نافر يؤكد الحضور بموازاة اللون بكل تجلياته وجدليته، الحركة .. السكون.. التواري.. الحضور .. قوة التعبير وإطلالة الإفصاح الذي عادة ما يكون عبارة عن مرآة تعكس ما شاهدته العين ونافذة يطل وينفذ منها إلي مخزون الذاكرة , ذاكرة المدينة ( المتخيلة للمستقبل ) التي تستفز روح الفنان الطفل فيستعيد تاريخ وحاضر وماضي ناسه وسمات وخصائص تلك الحواضر التي ما انفك العمران الإسمنتي يزحف إليها وعليها من ذلك نري الفنان موسي عمر في رحلة هيامه المدينية – نسبة إلي المدينة - يحاول صياغة وإعادة مجد حواضره بجنون العاشق المفتون بهذا الغز والسحر، برموز البيوت بكل ما تحمله من مخزون لذا دلف يشكلها ويفصلها كبديل آخر لا يتواءم إلا ورؤيته الخاصة بهذه الحبكة الفنية والتقنية التي أحدثت حالة الحوار القائم بين عناصر اللوحة الفنية ( المدينة ) متمثلة في تشابك الخطوط بالمساحات وتداخل طقوسية كتابة المحو بخربشة الأطفال علي الجدران وسماقة المآذن التي ولّت تناغي أهلّة قبابها المشتعلة الألوان تضيء الممرات والطرق، وعليه أضحت اللوحة ساحة مفتوحة وعالما زاخرا بقيمه الجمالية الخاصة به.
صارت اللوحة عند موسي عمر عالما تحمل بين ثناياها شرط وجودها المعماري المهتم والمهموم بالمناحي الاجتماعية والنفسية والجمالية وهذا الذي تومئ إليه عناصر اللوحة الفنية مجتمعة .
مدينة ممتدة .. متفرعة .. متماسكة لا يكبح انطلاقها ولا يوقف ذهابها إلى هناك إلاّ نهاية القماش , هذا الحد ( الوهم ) إلا متناه
أسوار من الصلصال:
بقدر ما رأيت أعمال رسم الفنان موسى عمر ، بقدر مارأيت خزفياته بصورة ربما أكثر مغايرة.. أكثر اختلافا رغم تقاطعها البين معها، بمعنى أن شعورا ما خطفني إليها باتجاه التقارب بينها وبين تركيبة الفنان ذاته الشخصية أو بصورة أخرى الإفصاح التي تبوح به وتدل عليه ( أي على شخصيته ) هذا الفنان الطفولي ( الفطري والبسيط ) إن جاز القول في نظرته للحياة وفي تعامله معها يعكس هذا السلوك هكذا بسحرية باهجة على خزفياته وكأن نطقته وإشارته وبوحه وتأمله يصير تصرف بريء على الصلصال وكأن إيغال الأصابع واللعب في الطين وبه ومداعبته والتشكيل منه وعليه ضحكة والتلوين ( التزجيج ) نظرة حب ساحرة وصادقة.
في الخزف يداعب موسى الطين بفرح الطفل المكتشف ، يرسم بيته وأحلامه على رمال شاطيء ( مطرح ) قرب مغيب الشمس وقت مد البحر وكأن الغروب والمد بداية انتهاء حلم ليبدأ من جديد في يومه التالي فموسى الطفل أبدا لا يتخلى عن طفولته وطقوسها لا في الرسم ولا في الخزف باستمرار يعمل تعلى بعث الروح في إنشاءاته الفنية خطا ولونا، ولربما وجد في الصلصال انبعاثا لخفي مستور يبث فيه قدراته ( عبث طفولته ) بخطوط نافرة وأخرى غائرة وموتيفات زخرفية عماني وألوان تعبر وتفصح عن عرس الطفولة الحلمة.. الحالمة بمدنه التي يشيد ويبني معالمها في الرسم.
في الخزف ومنه وجد طرق حمايتها ودرء المخاطر عنها ابتداء من بحر الطفولة وانتهاء بما آلت إليه وعليه المدينة في هذا العصر، يحميها بصلصالها التي خلقت منه وهي في غفوتها وصحوتها.
كل هذا البناء الجميل مشيد بعبث .. بخربشة.. بفرح الطفولة الشاردة.. بأنامل ما زالت طرية تلامس السطح والجدار برأفة وحنان طفل بريء ما زال ينتظر ذهاب البحر ليعود لرماله ليبني مدنه الحالمة.
عباس يوسف
فنان من البحرين