تأملات تشتهي المدن لتبوح بأوجاعها ...
إن بدايات الفنان التشكيلي موسى عمر لاتختلف كثيراً في نسقها البدائي عن بدايات باقي الفنانين العنانيين ، من حيث التكوين الأولى والأختبارات الملازمة لها في تسجيل مواضيع بيئية … غير أنها تختلف بغزارة الإنتاج ومحاولات التجريب المستمرة لكل ما هو أصيل وجديد في خلق صور واضحة لمعالم تصويرية فريدة تحاكي أنماط مخزونة في لغة تراثنا وماضينا دون تشريح لأهداف تكاد أن تكون مبهمة للبعض عند التوفيق لرؤيتها أضف على ذلك إنها تحاول إيجاد ملامس شفافة وخيالية تصنع أشياء تقرأ من عدة زوايا تضاف إلى راهن المساحة الضيقة من التجربة المحدوده…
ففي تجربته الحالية نجد إشراقات تلقائية جردت من صفاتها الأصلية لتخلق علاقات توليفية ذاهبة في مسلك اللاتأثير وداخل أطر محددة لهندسيات التجريد … اختصرت فيما الكثير من التفاصيل الداخلية والصياغات ، فأتت موظفة لخامات محلية - قطع من الحصران أو من الوزران الملونة - كأشكال تأخذ لنفسها سيادة في العمل الفني وتحمل رؤى شعبية ومفردات تؤسس تنظيمات جمالية رغم أحاطتها ببعض الهفوات إلا إنها تطمح بالخروج عن التقليد المتكلفة عند تناول لغة السطوح والإفصاح عن تلك الحدود المكونة جماليات المدن المتحابه.
وفي مدن موسى عمر نرى مشاهد أسلوبية تصب فيها إيقاعات مترادفة ، تحتفظ بنقائها التعبيري وبخصوصيتها العمانية من خلال هندسة أزقتها المتماسكة التي تنفرد باتصالات بصرية عالية لمعالم مقدسة أبعاد طقوسية لأشكال تمثل أصواتا موسيقية تمارس محاور لونية ذات معادلات جريئة من البني المحروق والأبيض الممزوج بمواد جيرية ، تحمل تنويعات من الخطوط المستقيمة والمتعرجة في اتجاهاتها ، بنظم تقنية عالية تهدف إلى إعطاء تأثيرات صادقة حول إنشائيات مكانية عجيبة تتزاحم فيها نوافذ والأبواب المفتوحة والأشكال الشعبية – والعرائس والموتيفات – المتداخلة بعضها ببعض لتشكل وحدة عضوية رائعة وسيادة ديناميكية متقدة تربط بين العناصر البصرية المتعددة من جانب والخلفيات المستخدمة من جانب آخر.
كما تبرز في العديد من المشاهد كثافات حركية للتكوينات التي تسود فيها الخطوط المائلة او الأشكال الهرمية او الكائنات الخرافية أو الهياكل المشوهة التي تحمل مراراً التهاكم وتلبس اقنعة مزيفة وعباءات مفرغة كأنها تبحث عن مكان وسط جدران صامتة جسدية فتمنحها الأبجديات الكتابية المتطايرة معراجا فراغيا حشدت خلفه تحويرات شعبية ووحدات صامتة من أشكال النخيل لتضرب الفضاء بالصورة القديمة وكتابات المبعثرة .
وتأتي مجمل استخداماته الونية على هيئة ضربات ذات ملمس خشن وتداخلات لونية اخذت في مناطقها على هيئة صورتين : الأولى : مناطق قاتمة من تداخلات الأحمر ومشتقاتها والثانية : مناطق مزرقة ومخضرة أسقطت عليها أشعة مباشرة من المصدر الضوئي فاتت فاتحة على القطع المسطحة والزوايا المحفورة وصولا الى المساحات العريضة النابضة بالعمق الفراغي ، مستخدمة معها الصمغ كريليفا مكملا في الجانب الآخر على المسطحات الورقية ، بغية إكتشاف معالجات مساعدة تمثل أقصى درجات العمق الغراغي لمشاهد أو المناطق المزدحمة بجدرانها الشاهقة وأصواتها المرئية التي أختارت بدايات والنهايات مفتعلة مشحونة بتراكمات مشتعلة باللون الطيني لتذكرنا بالقرى الموجودة في المناطق الداخلية من وطننا.
إن في الأعمال الفنان بنايات تستنطق بروح المكان وتستنجد بروح الصمت الخارجي ، لتخلق أبعاداً تمثل مجموعة من رؤى حول الإنسان الصامت المتمسك بتعاويذه …. وهنا يقول الفنان واصفا تجربته : (في أعمالي مقاومة للصمت الخارجي، تتجلى من احساس بالإنسان المتواجد دوما خلف وأمام الجدران…. نشم رائحته التي تنقل لنا احساسا تجاه المدن والبيئة ،فالبيئة الشعبية التي ارصدها عبر هذه البيوت المغلفة بالنوافذ المشربيات قد حفزتني في تصوير أرواحها المتحابة والمتعاطفة … أما بصمات الإنسان على هذه الجدران وهي تخطيطات عفوية مخزونة في الذاكرة وبحثي التشكيلي لها يستند بالدرجة الأولى الى تلك العناصر) .
ويبقى أن موسى عمر مسكونا بهموم الأكتشاف وخلصا لمدنه ولتأملاته التي تبوح بأوجاع نشتهيها ونسأل من خلالها عن لغة للغناء والبكاء في تجربة تسعى إلى الإستمتاع والتوافق في استخداماتها التقليدية وبرموزها الشعبية القديمة وبهلالها اليتيم وأقواسها المتداخلة لتبعث في اللوحة وهجا للأمل مناصفة والحياة في وظيفتها.
حسين عبيد
فنان تشكيلي عماني