التشكيلي العماني موسى عمر :
يعتمد الموروث كثيمات أساسية في لوحاته


تدور الكثير من المساجلات وتتعدد الطروحات التي تتطرق إلى الفن التشكيلي، ورغم ترسخ هذه الفنون في مجالات أوروبا الثقافية منذ قرون طويلة إلا أن البحث فيها ما زال مثيرا للجدل وتثير الكثير من التساؤلات حول معطيات هذا الفن إلى حد يمكن القول أن البحث فيه أكثر تعقيدا بعض الشيء من بقية الفنون الأخرى لعدة أسباب أهمها أنها انتاج فردي حسي – مادي ويبقى كذلك.

وقد يقول قائل أن النتاجات الأدبية تنطبق عليها هذه التسميات مثل الشعر أو المسرح أو القصة ولكن هذه النتاجات الأدبية بالإضافة إلى كونها حالة فكرية صرفة تترجم إلى كلمات غير ملموسة مثل الشعر أو المسرح أو القصة وكلن هذه النتاجات الأدبية بالإضافة إلى كونها حالة فكرية صرفة تترجم إلى كلمات غير ملموسة يمكن أن تتحول إلى صوت يردده قائلة أو قارئه وتتعدد الأصوات وتختلف القراءات وتتباين رغم ملموسة يمكن أن تتحول إلى صوت وتختلف القراءات وتتباين رغم أن الكلمات تبقى كما كتبها مبدعها إلا أن النفس القارئ يضيف لها بعدا حسيا جديدا أو قد يتبع الشعر لحن ويمتزج به أو قد يضمن مع أبيات أخرى في أشعار لشعراء أخرين أو في أدبيات مختلفة لذا نجد هنا أن للشعر أو القصة أوالمسرح لها استخدامات تتجاوز إلى حد بعيد مدى استخدامات النتجات التشكيلية وكما يشترك في بلورتها وصبها في قوالب أخرى كالمسرح أو السنما فنانون أخرون يمارسون فنا يختلف أصلا عن مبدع تلك الأعمال الأدبية (شعر ، مسرح ، قصة) في حين أن الفنون التشكيلية تترجم فقط إلى (حالة – مادة ) مصنعة ملموسة ثابتة لا يمكن تحويلها بأي شكل من الأشكال إلى عمل فني أخر ويبقى العمل التشكيلي الفن الوحيد الذي عند نضوجه يستخدم فيه الفنان نفس الأدوات والمعالجات والرموز الصورية التي تعكس أسلوب الرسام – المصور وتصبح كعلامة واضحة تابعة للفنان.
أن المدارس الفنية التشكيلية رغم قربها من المدارس الأدبية في الفكر أو المنحى إلا أنها تحتفظ بخصوصية متفردة تشخصها بسرعة العين المدربة ولقد أختلف وتعددت فكل المدارس وما زالت تجد قبولا من الجمهور على أختلاف مشاربهم ورغباتهم وما زالت تثير جدالا فكل مدرسة مريدوها وبحث الكثير من الفلاسفة عن طبيعة الفن وكيف يجب أن يكون وفي هذا الصدد يقول هيغل في بحثه عن الأفكار الشائعة عن طبيعة الفن ومحاكاة الطبيعة ما يلي : "" .... مقتضى هذه التصورات على الفن أن يحاكي الطبيعة بوجه عام..ومن أقدم ما قال بهذا هون أرسطو .. حينها حيث كان التفكير مازال يحبو البشرية في أطوار نموها الأولى إلا أن هذا التفكير مازال هناك من يعتقد به ويتبعه ويبرره.. ولكن هذا التعريف والتحديد للفن سيلزم الفن بأن يكون شكليا فقط لا يرتبط بالذهن والفكرة كما أنه يرينا ما نعرف وما نشاهد كل يوم وقد نفذ بكثير من الحذق والمهارة القادرتين على التقليد ....""
وقول كانط ( ... ومهما حاول الأنسان التقليد فلن يصل إلى مستوى الطبيعة أبدا فن نطرب لصوت رجل يقلد تغريد البلبل مثلما يطرينا ويثيرنا تغريد بلبل في الصباح...) .
وهذا الحديث يقودنا إلى التطرق إلى فن البورتريت وأعمال لوسيان فرويد رغم أنها تنقل لنا عالم نعرفه وأشخاص موجودين أصلا إلا أن لوسيان فرويد يضفي عليهم بعدا أخر يجعل المشاهد يحتار بين الأصل والصورة إذ توحي له الصورة بأن الأصل غير موجود وغير حقيقة والصورة هي الحقيقية بما فيها من انفعالات واحاسيس وتعابير معقدة ومبالغ فيها.
لذا فالقراءة الفنية لا تستند على المظهر العام للانتاج الفني فقط بل تقودنا إلى البحث عن الاستلهامات والدوافع والنتائج وكثير من الأحيان تنبع من الضمير اللاواعي للفنان أو قد ترتبط فيه مهما أختلفت أداة التعبير الفني فقد نشاهد نفس اللوحة لمنظر طبيعي وفنانين مختلفين وكل لوحة تبعتعد حسيا وتعبيريا آلاف اللاميال عن الأخرى في نقل نفس ذلك المنظر وهنا نجد العلاقة الواضحة التي تشير إلأى التفاعل بين الحدث الخارجي الحس الداخلي في هذا التباين بين عمل وأخر .
لقد تطرق الفنان التشكيلي على مدى العصور لمواضيع عديدة وكثير من الفنانين عالجوا نفس الموضوعات وأختلفت المعالجات واستعيرت احيانا كثيرة مواصفات فنية معروفة وأدخلت في أعمال فنية وأضافت بعدا جماليا مختلفا عن الأصل الذي نبعت منه ونجد ذلك في أعمال وليم بليك الكثير من هذه المداخلات ولكنه وظفها بشكل أبعدها تماما عن أصولها وخلق لها جذورا جديدة تمتد باتجاهات تختلف عن الاتجاهات التي كانت منابعها الأصلية فلقد استعار من دافنشي وبوتيشلي ولكنه قولب استعاراته بما يتطابق مع فكره الرومانسي الصوفي وعندما يصلنا العمل النهائي الذي أنتجه وليم بليك لا نحس بأي أرتباط بين تلك الأشكال الأولى وبين ما قدمه لنا بليك فلقد أخرجها من محتواها واضفي عليها محتوى جديدا مختلفا ومقنعا يخلق حوارا جديدا بين المتلقى والعمل, وهنا تكمن القابلية الأبداعية للفنان الموهوب الذي تكون عنده عملية الخلق الفني متوحدة وفريدة وذات خصوصية وبهذه الأدوات سيختلف فيها عن الفنان الحاذق للصنعة فقط ولكن، مهما كان الفنان موهوبا فلا بد من حذق الصنعة والتسلح بالخلقية النظرية التي تتيح له التتبع إذ أن يمكنه من هذه الأدوات ستجعل من عمله الفني فنا ناضجا متكاملا يستند على أسس وقواعد راسخة .
أن المدينة بكل أفرازاتها استهوت الفنان التشكيلي فالوحدات الايحائية الفنية التي تنبع من المدينة هاشلة كما وأن التناقضات والترادفات تتواجد بكل أبعادها في المدينة ورغم الأجواء التي قد تكون أحيانا ريبتة على عين وفك رالأنسان العادي إلا أن الفنان يستطيع تطويعها لتبدو مثيرة واحيانا غريبة والفنان الإنجليزي (لا وري) أحد الفنانين الذين استهوتهم المدينة بكل ما فيها من ملل وضجر وصورة ذلك بكثير من الأثارة حتى ولتبدو الشوارع في الوحال (لا وري) تماما مثلما قال بودلير واصفا الشارع بأنه (المكان الذي تقترب فيه البيوت والمحلات والناس بعضها من البعض).
وكانت المدن الشرقية أو دائما تجتذب الفنان الأوروبي ففيها نكهة مختلفة وبعد جمالي غريب وكم هائل من المفردات والرموز التي تجتذب الفنان فمدن الشمال الافريقي العربية كانت مصدرأيحاء للكثير من الفنانين من دلاكروا إلى ماتيس إلى بول كلي والقائمة تطول .
كما وأن المدن أيضا اجتذبت الفنان العربي المعاصر وكانت مصدر ايحاء وأختلفت معالجاته بأختلاف البيئة الفطرية والبعد الأكاديمي فأن سعاد العطار ووداد الأورفلي تبدو مدنهما وكأنها هاله أن لم تكن تحيط بالمنظر الأصلي أو تأطره إلا أنها تبزغ من مكان ما في اللوح يحتل موقعها حيزا مهما من الرؤيا وتضفي على المدن تلك بعدا روحانيا ولا يخفي الطراز الذي يميزها إذ تبدو فيها القباب والبيوت بطابع عراقي محض في حين أن شفيق أرناؤوط يظهر لنا الجداران الحجرية المنتشرة في البناء السوري الشامي .
كما وأن المدن في وجدان الفنان العربي لم تكن المظهر الخارجي أو المكان الواسع بل كان كل ما في داخل المدن من أبعاد دقيقة فردية ترتبط بحياة الفنان اليومية أو باللاوعي أو ذكريات طفولية تغلفها (النوستالجيا)والحنين إلى أيام مضت أو حت أمنيات بصور لمدن أفضل جدرانها أنيقة ، أبوابها مزخرفة نظيفة، شبابيكها رحبة .
نفحة سحرية دائما ترتبط بالتجارب التشكيلية التي تعتمد المدن موضوعا إذ أن للمدن دائما حسا بعيدا وعميقا في الوجدان الفني بكل أبعده ومدارسه كما وأن السحر كلمة تردد بحساب وبدون حساب في الوعي واللاوعي العربي وتستعمل بكرم متناه وحتى أحيانا بشكل تلقائي بدون إدراك مغزاها وقوتها الفعالة .
ولا يتردد الفنان شرقيا كان أم غربيا أن يغمر لوحاته بهذا الأحساس و(بول كلي) خير مثال إذ أن المدن بتجمعها السكني وبيوتها وأسوارها وشرفاتها تشد مخيلة الفنان إذ فيها مارس حياته ومهما عرف الفنان المدينة فستبقى مجهولة وساحرة بالنسبة له لأنها تنمو وتكبر وتشيخ وكما تموت فيها مناظق تتجدد وتولد فيها أحياء جديدة وممارسات مختلفة ورغم بوح المدن الصريح عن نفسها إلا أن غلالات السحر والغموض تكتنفها وتبقى المخيلة معلقة بها تشتهي اقتحامها فهي اختصار لعالم كبير وكل ما يحتوية من أسرار .
ويأتي سطح اللوحة ليكون كوسيط يظهر الفنان انفعالاته وتجاربه عليه وبخيالة يستطيع تطويع المدن ويختار منها التعويذات السحرية التي يرتئيها والتي تمثل مزاجه الذي ينبع منه نبض أحساسه بالمدن.
وموسى عمر يختار لمدنه عالما دقيقا مملوءا بالتفاصيل التي تعتمد الموروث الذي تعودت عيناه عليه وخزنته وهذا الموروث ليس بالضرورة وجدة على جدار بيت أو في تصميم بناء بل يكون قد استعاره من حالية فضية وكذلك من الخريشات الطفولية (جرافيتي) على الجدران وهذا واضح في أغلب لوحاته ويصور مدنه بشكل مسطح كرسم طفولي بريء (لوحة المدن الحالمة)ولا يجد من الضرورة أعطاء مدنه بعدا ثالثا إذا أنها لا تحتاج إلى بعد أخر لتجسيمها في كلها مجتمعة في حيز واحد فكل رموز المدينة في داخل مربعات (لوحة المسافة)أو قد يجعل مدينته محاطة بسور من مدينة أخرى تحتضنها (لوحة مدني) إلا أنه في كل الأحوال يدخل في عمق تفاصيل المدينة فنجد القباب والبوابات والأهلية والكف والعين والصلبان وأقمارا ملونة ومدرجات سلالم ونوافذ صماء كانت أم لا كلها تتجمع على سطح واحد وحتى إذا ما أختار تفكيك رموز المدينة كما في الأبراج القديمة إن كانت بركا فكيا أو معماريا فتدخل فيها تلك المساحات المسطحة المليئة برموز المدينة (لوحة الأبراج القديمة).
التنقية النفية التي تستلمهما موسى عمر فيها جانب تفردي وقد يستخدم فيها طريقته الخصاة في تطويع اللون والمادة ولكنها بنفس الوقت توحي بقربها من استخجامات مر بها الكثير من الفنانين .
التسطيح في الأعمال الفنية أصبح مميزة الفن الحديث وفنون ما بعد الحداثة وهي استلمهامات إسلامية بحتة تمتد عميقا في الوجدان واستعيرت في الفنون الأوروبية بشكل واضح بدأها جوجان ثم عززها ما تيس والفنان العربي بشكل عام معتز بها وموسى عمر أحدهم إلا أنه يوهمنا في كثير من أعماله بالتسطيح إذ أنه يستعمل الرسم والتلوين البارز بما يشبه الرليف وكذلك عند استعماله اللون بهذ الحساسية الخاصة المفرظة فأنه يوحي لنا ببعد ثالث موهوم تتقبل حواسنا هذا الوهم وتعيش بداخله وكأنه حقيقة .
رغم قتامة الألوان في أعمال موسى عمر إلا أنه في توظيفها ينجح في جعلها أن تنقل لنا وتصور حسا فرحا سحريا غامض اللون لا يبعث على الكابة والحزن أو شغف الحنين وليس حزن الالم .
وفي حديث متشعب مع موسى عمر تختلط فيه خيالاته التشكيلية برؤيا المدن وبالتبيئة والتكافل الاجتماعي والترابط بين الكتل البشرية وبين أسوار مهجورة ورمال تعبث بها الأمواج وكتابات على الجدراتن وشواهد قبور والخوف المغلف بالمجهول ولك ما يدرأ الحسد وطلاسم كل هذه المفردات تتحول إلى رؤيا فيها حسب مأساوي ولكن المسأسة تأخد قالبا أخر لتصبخ سمفونية باحتفالية كرنافية باختلاط الألوان والرموز والأبعاد التشكيلية تأخذ صبغا رمزية من مربعات وخطوط متقاطعة وحروف غير مقروءة تماما تبرز من بين سطح بيت أو جدار عال كل شيء قد أعيد ترتيبه وتم بناؤه ليحدثنا عن واقع معاش ولكن برموز بعيدة جدا عن الأنسان بل هي أثار للانسان وما ترك وخلف لنا أما هو "الانسان" فلا نراه بل نرى انفعالاته ونجواه وخيالاته وشغفه وحنينه وذعره من بين تلك الرموز يخلق موسى عمر حوارا خياليا بين كل تلك المعطيات والمتلقي ويسحب معه المشاهد ليضيعها سوية في أوهام حوار مفتوح على أسوار المدن وبقايا البيوت التي تفرض نفسها على الفنان بكل ثقلها وهو ينقلها لنا لنشاركه همه وهمه.
ناقدة وفنانة بريطانية
د.أملي بورتر