نصوص بصرية
تكريس الإرث البصري في أنساق حديثة



التشكيلي العماني الشاب (موسى عمر) يتمتع بحضور ملحوظ في الساحة الفنية العربية منذ منتصف التسعينات وذلك لما تحظى به أعماله من خصوصية مصدرها إعادة إنتاج التراث في معالجات حديثة فهو مثل كثير من أبناء جيله المصورين الذين يجدون في الفلكلور الشعبي البصري موضوعا هاما للتجربة لتشكيلية يستمدون منه عالما كثيفا من التفاصيل الغنية التي تتيح للمخيلة تركيب مختلف الأشكال القادرة على الإيحاء بأكثر من معنى كما تمنح الفنان حرية أكبر في الانتقال بين أزمان متغايرة يختلط فيها القديم بالجديد والماضي بالحاضر .

يعتمد الفنان في نصوصه على الذاكرة البصرية التي تستحضر تحولات المكان بكل ما تحمله تلك التحولات من قيم حسية وروحية ولذا تلوح في تكويناته رموز ذات المخزون الشعبي المتضمن فنونا متعددة بدءا بالحكايات والأشعار وانتهاء بالتعاويذ المسجلة في خربشات ونقوش تختزل في طياتها الخبرات الجمالية المتراكمة عبر العصور .

بناء الصورة عند (موسى عمر) يمثل تواطؤا ضمنيا بين أنماط متنوعة من الفن لتشكيلي يشترك فيه الحس التجريدي بالنزعة التعبيرية مع بعض سمات الفن الواقعي من حيث تكريس مفردات مألوفة داخل البناء غير أنه في الوقت ذاته بضعها في علاقات جديدة وفي مساحات لونية لتحدث شكلا من الالتباس الفراغي الذي يحقق تحريضا للمخيلة عند التلقي ويخلق عشرات الاحتمالات.
توحي أعماله بحالة من الفوضى التي تثيرها التفاصيل المبعثرة المنتشرة على السطوح والتي تتقاطع أحيانا وتتزاحم أو تتجاوز في سردية بصرية مبهمة إذ تظل مجرد رموز وإشارات لا تبوح ومضامين محدده وإنما فيها الكثير من رؤى الفنان ألا محدود والواقعة ضمن ذاتيته وفهمه للعالم وموقفه إزاء الحالة بأكملها .
أن الاستئناس إلى عناصر الفلكلور يمثل في هذه التجربة أحدى الحالات البحث عن الهوية عبر ممارسة تشكيلية تتسم بالعمق فقد أفلت الفنان من أسر النقل الميكانيكي الفج للبيئة المحلية والذي لا يولد في غالب الأحيان غير مشاهد مجانية ...

ذلك لأنه أتخذ من مظاهر الحياة الشعبية وسيلة للدخول إلى العوالم مضامين أوسع فتتحول التفاصيل العضوية والنقوش إلى قيم وأبعاد تفوق وظيفتها العادية .. في الواقع العادي فتلك النقوش التي ترسم على أيدي النسوة تتنقل إلى لوحاته مثلما تنتقل هياكل المنازل المزخرفة والحرفيات وهيئات الكائنات المصورة في أسلوب عفوي لتندمج أو تكان تنصهر في كيان الطابع التجريدي وتنتج في النهاية نصوصا تستجيب لمعطيات فلسفية وجمالية .
ولعل أبرز السمات النفية هنا تكمن في تحقيق المعادلة بين اللجوء إلى تجريد اللوحة من خلال المساحات اللونية وتأكيد تعبيرية الألوان ، وبين إضافة أشكال ذات صلة بالخارج المحسوس فبرغم إدغام العناصر الواقعية في نسيج الأعمال إلا أن أسلوب رسمها وتصويرها لم يتوخ حرفية النقل وأنما أرتكن إلى منهج الفنان نفسه في طريقة النقل والذي كان مغايرا إلى حدا كبير عن هيئة الأشياء في طبيعتها المرئية ، الأمر الذي جعلها تذوب من قوة وتماسك اللغة الدرامية التي ربطت أجزاء العمل.

تكونيات (موسى عمر) مفاجئة بمعنى أنها لا تقوم على نظام تخطيطي يمكن تعميمه على جميع منتجه وأنما يوجد كل تكوين بناءه الخاص، فنشاهد في لوحة مكتظة بالأشكال بناء طوليا مستطيلا وفي الأعلى يقطع إطار اللوحة عمل أخر مستطيل وقد الصق عنوه ليتوسط قمتها على قليلا من التأمل في التكوين العام بجزئية يظهر علاقة غير مباشرة بين الشكلين حيث يوحي السطح الكبير المصور والذي تتشابك فيه الخطوط والخربشات بالنسيج اللوني الغني يكون تسوده حركة ربما يصعب تعيينها لأنها تبقى معنى مجردا غير أنها قد تكون دلالة على حركة الزمن وتبعث العجينة اللونية في اللوحة جوا احتفاليا صاخبا، ثم يقتحم هذا الكيان حيزا أخر (في العمل الصغير ) يشبه الحياة في سكينتها ولحظات هدوئها .. أنها مزاوجة بين عالمين أو عرض للحياة من خلال حالتين مختلفتين وفي لوحة أخرى لا تستبعد البناء الهندسي عبر تقاطعات الخطوط الرأسية بالأفقية يتجه التكوين إلى الأسفل بسبب تأثير كتلة المنازل المتلاصقة التي تشد العين إلى الجزء السفلي فتدفع بها إلى متابعة خطوط البيوت واقتحام خفاياها.. يعتمد الشكل على السطوح البارزة والامتداد الأفقي وتبتعد الخلفية لتشكل فضاء الحي أو المدينة .. كما أن ألوانها القائمة تعكس إيحاء بالظلام الذي لا يكسره غير هلال شاحب يلوح في الجزء الأيمن من التكوين .

في نص من إنتاجه يلجا المصور إلى حركة دائرية تغفي على جميع العناصر فالزخارف والحروف والمنازل والكائنات موضوعة داخل مربع التكوين في صورة دائرية غير ثابتة ويظهر عدم الثبات بمساعدة اهتزازات الأشكال التي تصنعها حركة الخطوط المتوترة .
في تجربته نجح التشكيلي العماني (موسى عمر) في الخروج من مأزق استلاب التراث والنقل الساذج الذي وقع فيه كثير من فناني جيله فأنتج منجزا بصريا بأدائية عالية ومستويات متعددة.
دكتورة وفنانة تشكيلية اليمنية
أمنة النصيرى