مدن ترضع صمتها الأزلي في
تجربة التشكيلي العماني : موسى عمر
علامة بارزة بين سابقية والقادمين بعده، يقف جسرا موصلا إلى شرفات الحكم حلم البياض الذي يشغل المساحة الأولى، مساحة الطفولة وهي ترى الكون خال إلا من الحب والجمال.
لا تستطيع تحديده في مدرسة ما، أو تخضع قراءة تجربته تحت تأثير اتجاه ما، هو يحاول شق طريق خاص معتمدا على إرث فني خصب، هو خيال الشرق ومعامارية مدنة القديمة وأساطيره التي تحلق بنا في المجهول.
كتب الأستاذ الناقد نوري الرواي، واضعا يده بدقة على تجربة موسى عمر كل طفل يستطيع أن يكمل لوحة موسى عمر، في ذلك يحقق موسى عمر إنجازه الجوهري وهو الرسم بمخيلة الطفولة والاقتراب من عالمها البدائي الجميل.
لذلك لا يذهب بك موسى عمر إلى نهاية الأشياء، هو دائما يأخذك إلى بدايتها، وهنا يكمن جذر تجربته، ووهجها ، وذلك أننا نذهب معه إلى عالم أفقدنا إليه ولم نعد نراه أو نسمع به ، الأرض عندما كانت يوما ما مدنا من السحر والأساطير وهو في ذلك لا ينفصل عن موروثه بل إن إرثه ما يدفعه إلى التشكيل فرموز تجربته تحتله القباب ، الهلا، الأضرحة ، النخيل، المنمنات الشعبية، الخيول ، هذه الموتيفات هي ما يمزجها موسى عمر ليخرج منها بعد ذلك عالما من الدهشة والغرابة ينفذان إلى القلب والعقل معا، وهو حتى في ذهابه إلى تشكيل الكائن البشري، تخرج كائنات صامتة هلامية ، لأنها ولدت من مدن ترضع صمتها الأزلي ، تخرج من بؤرة اللوحة متجهة إلى فضائها سابحة في سمائها اللامتناهية ، وعباث تحاول تجسيد تشكيل ما لنسائه أو خيوله ، ذلك أنها كائنات تستعصي على اللمس والقبض كائناته مخلوقة للفضاء البعيد الذي لا تلامس سحره غير أحلام طفولة بعيدة لن تعود ثانية .
تسكن تجربته متوازنة بين الضوء والظلمة ، بين الصمت والصراخ ، بين العتمة والوضوح ، الفضاء المظلم وقاتم غير أن اللوحة مزخرفة بألوان من البهجة وكأنها قوس قزح بشق عتمة سحب في فضاء ممطر .
هذا التوازن مرده إلى جذر تشكيل اللوحة الأساسي الذي يحاول موسى عمر تقديمه لنا وهو إضفاء التوازن على اللوحة بين الحلم والواقع وبين الحسي والروحي، والذي انسحب لاحقا على تشكيلها العماري المتوازن بين الفراغ والملء وبين المفتوح والمغلق في المدن الحالمة.
لا ريب أن هذه الثنائية المتضادة وليدة تجربة سبق وأن تأثرت بمدارس أساسية في التشكيل العالمي، ففي تجارب ما قبل المدن الحالمة يلاحظ أثار المرحلة التكعيبية لبيكاسو وتجارب كاندنسكي الواقعي التأثيري في اتجاهاته المختلفة.
وقت ذلك لم يكن الفنان معنيا بدلالات الزمن المحلي أو بالموتيف والكولاج أو بتقسيمات اللوحة إلى مراحل مختلفة ومتدرجة كما تجلى واضحا في انضج أعماله الجدراية: برزخ العزلة.
وما أهتدى الفنان إليه في مراحل لاحقة هو إعطاء الفضاء فرصة البوح والمشاركة في خلق الجمال ، عنه في مراحله الأولى التي استمت باكتظاظ العناصر وأمتلاء اللوحة بها.
تدريجيا يعثر الفنان على فضائه وعلى صوته المتميز وأصلا إلى التجريد اللوني في تجارب وإلى الموتيف الذي يتأثر مشكلا حلقات تنفصل وتتواصل في تجارب أخرى .
الموتيف يتخذ أشكاله الخاصة في التجربة دون تحديد مسبق لحجمه أو لونه ، لكن جذره الأيقوني الشرقي هو ما يجعل حميميه ترابط هذه الأيقونات بعضها ببعض واستاقها في أشكال هندسية منظمة .
تسيطر ألوان مشرقة فائضة بالحياة عليها،حتى وهي قادمة من العوالم الداخلية للإنسان خاصة التجارب المعنية بالمرأة حيث تتبعثر الموتيفات وتتلاحم مشكلة قراءة داخلية لهاذ العالم الجواني المعقد الفائض بالأحاسيس والمشاعر المتناقضة روحيا وحسيا كان على التجربة هنا أن تكون في مستوى تعقيد هذه القراءة ونقلها إلى التجسيد ، والموضوع ليس في نجاحها تجسيد الدواخل من عدمها ، بل في الجديد الذي يطرحه عليها الفنان وهو إثراء القراءة هذه الموتيف والخيال الشرقيين الجديدين كل الجدة في عالم التجديد والإثراء اللوني .
تجربة المدن الحالمة يكمن تميزها في اقترابها وابتعادها عنك في أن، قريبة نظرا لأن جذورها الطفولي الشرقي الخاص يشكن أعماق كل منا، ما يجعل المشاهد يفكر حقا بأنه خالق هذا العالم الغريب ولكنه البعيد عن الخلق ثانية نظرا لاستحالة العودة إلى السحر المفقود.
لا حقا تدخل في التجربة مثريات جديدة كالقضبان الدامية وهي تسيج عزلة الانسان ، أوالحجارة المرصوصة على القبر كشاهد أو الأبجدية العربية والأرقام لإضفاء دلالات ورموز سحرية عرفها الشرق وكتاباته السحرية والطوطمية الأولى .
وحيث يتم الخروج من الثنائية والضدية فإن الرحابة تفسح للمخيلة فضاء أوسع للخلق والإبداع عنه في وضع حدي التجربة بين نقيضين يبدأ ذلك جليا في تجارب تلعب فيها خلق الفضاء المحيط بالثيمة بؤرة للتجربة عنه في التركيز على الثيمة الأساسية كبؤرة للعمل الفني ففي تجارب: قبري، مكان أخر الليل، من يقف نزيفي، كأمثلة في بعض منها أو مجملها في تجارب أخرى ، وما يتناثر في تجسدات في فضاء اللوحة إنما يدور حول الثيمة المعطاة بالون الفضاء (الليل) أو بحجر الفضاء (القبر) معطيا التجربة خيالات تشكيلها الخاص.
التجربة إذن هنا هي أفضاء الذي يسنجه الفنان نحو التمثال أو نحو الثيمة، هذا الفضاء العذب الذي بدأ يتخلق ويتشكل في تجربة موسى عمر تدريجيا حتى وصل إلى أقصى درجاته التعبيرية في تجاربه الأخيرة.
إلا أن على تجربة الفنان موسى عمر أن تنطلق بعيدا، بعدت أن أرست أذور تجديدها وتشكيلها عليها أن تبحث عن حديد في عوالم الخلق والإبداع معتمدة على أرضية صلبة من المران والتأسيس تجربة ستكون قادرة على خلق توهج يعقد على رموز تختلف عن ما سبق وإن قدمها، ما هو بحاجة إليه الذهاب بعيدا إلى الفضاء المفتوح، الذي بدأ خياله ينضج في تقديمها عبر لوحات المدن الحالمة، موهبة موسى عمر تعتمد على هذا الوهج، وهج التقدم من مساحة إلى أخرى ومن ثيمات لأخرى دون الاكتفاء بالمنجز الماضي.
إن الفنان الذي أستلهم أشكال الشرق وألوانه الوضاحة محاولا لا توظيفها للتعبير عن مكنونات الإنسان الداخلية عليه في مراحل قادمة الذهاب إلى روح الشرق وجوانياته الخصبة ذات الألق الصوفي التراجيدي لتضئ له طريقا شاقا أرتأى أن يسير به وحيدا في ليل معتم وطويل.
شاعر وكاتب من سلطنة عمان
سماء عيسى