موسى عمر
كنا نتنزه ذات مساء، على ساحل البحر في منطقة القرم، مستذكرين الأيام الخوالي المتباعدة من طفولة وسيرة حياة الفنان موسى عمر، في منطقة (أرين) من مدينة (مطرح القديمة) التي ولد في أحد بيوتاتها،عام 1971م وكان الثالث من بين خمسة إخوة : (علي وعيسى) و(اختان) لهما.. كان يلعب في المياه الضحلة من الساحل، يصد بيديه الصغيرتين بعض الموجات المندفعة نحوه. وكانت الرمال تتحول بين يديه إلى تماثيل لحيوانات صغيرة تعلم صنعها عن أخويه وأصحابه، يلهو ويبني قلاعا من خزين ما شاهده وسمعه عن الحصون في خياله، و بيئته و ذاكرته، التي تراكمت في تفاصيلها الدهشة مما يجري حوله حتى ساعة حمرة المغيب وهو يتابع الشمس تغرق في البحر. و بعد لحظاتيصك أسنانه على أطراف(دشداشته) ويصعد بها إلى أعلى الجبل وقد انفرشت أمامه حقول مديدة من أشجار الفواكه المختلفة. فيرسم الأحلام الممددة في كل ما كان يتأمله صباح مساء، من معمار المنازل ودكاكين الأسواق القديمة في (مطرح) وما يتأمله من الزخارف المحفورة على الشبابيك ومداخل أبواب الجوامع، والأفاريز الجصية المزخرفة حول واجهات المساجد و(تكيات) الكتاتيب لحفظ القرآن..
و كان (الطفل موسى ) يغادر(الحوش) عبر الأزقة، بمحاذاة سور اللواتيا، ويلاحق بعينيه الباعةالجوالينقرب بوابة السوق والدكاكين القديمة المتراصة، ثم يرفع بصره عاليا ليرى (الإزارات والبيرمات) كأنها أعلام معلقة في مهرجان ألوان زاهية براقة لأعياد رمضان والأضحى. وكان يتفاعل تلقائيا مع مايراه في الحياة اليومية مع الناس في (سوق الجمعة) ، فتتفتح أساريره لهذه المشاهد، متأملا العوالم المائجة فيه، ثم ينطلق يطوي الدروب الضيقة التي خيمت عليها " البيوت " ذوات الحيطان المبنية من الحصران والطين في دروب (مطرح) منثالاً إلى داره بين أصدقاء طفولته.

وادي عدي و(دريشة) جوني

كان عمره خمس سنوات عندما انتقلت عائلته للسكن في (وادي عدي) حيث دخل المدرسة الابتدائية التي تحمل اسم الوادي. وكان يرى هناك (جنب الجبل) كوخا باليا من الخشب المتآكل يسكنه مستوحد من الفقراء المدقعين، يدعى (عبد الرزاق جوني)، يطلق أنفاسه الوحيدة في كوخ موحش بارد شتاء وحار رطب خانق صيفا، ويطبق الصمت القاسي عليه. وكان (موسى) يراقبه من (دريشة) الكوخ وهو يرسم بالفحم على أوراق قديمة وجرائد صفراء متهرئة وقد تعاطف مع أسلوب معيشته الصعبة وقسوة حياته اليومية وطريقة رسمه التلقائية.. (.. هل تراه يتكلم ، أو يسمع له صوت؟).. كان موسى يحدث نفسه بذلك..

التحق موسى بمدرسة (خالد بن الوليد ثم حسان بن ثابت والعامرات وجابر بن زيد وثانوية روي ). وكان لهذا التعدد والانتقال من مدرسة لأخرى، أثر عميق في نفسيته وسلوكه ونزعاته الفنية طيلة تسع سنين من فترة صباه. وكان مثل معظم الأولاد يرسم الوجوه، ببقايا خشب محترق أو بالفحم أو الطباشير الملون على الحيطان والأبواب والصفائح القديمة، وملأت رسومه صفحات دفاتره وحيطان منازل الجيران. وكان يستخدم أيضا " حجارة " تشبه المقشط يحز بها وجه الجدار فيرسم ما يحلو له من الخطوط : على هيئة الطير وصورة الدائرة والمثلث والمربع والأشكال المركبة مع مشهد النخيل والأشجار والقوارب والمآذن. وانجـلى اللـون في الطبيعة، عن لون ملأ عينيه وروحه وصفحات دفاتره كمـا انجـاب الضباب عن ضوء النهار.. فكأنما كان ينشر على الجدران وهجا من مسراته. وهكذا يبدو أنه يتمتع باللعب بالرسم لفرط ما تتميز روحه بالحساسية على نحو يجعله يأنس ويغتبط أيضا لمرآى الصلصال.. لأنها تثير في خياله حافزاً للعب. وقد تكون هذه الملاحظة شاهدا لمستقبل توجهه في الرسم والفخار والخزف والسيراميك والنحت الفخاري لأنها عملية معقلنة ضمن حالة قد نستخدمها في تشخيص قيمة فنه لاحقا، لأن التكوين النفسي الذي عليه وهو يمارس اللعب بالرمل والطين أمر مرتبط بانفعالات الصبي وبقدراته التخيلية في تلك المرحلة. كما أخذ عن معلمي الرسم بعض المبادىء الاولية عن رسم مشاهد الطبيعة ، ومواضيع (المرأة العمانية) والرموز الشعبية الشائعة، وكل ما يتعلق بالبيئة والواقع والمجتمع. وهو عندما انحاز إلى موهبته في الرسم ووعى قيمة الفن، وضع الكثير من طبيعته في محاولاته الأولى، وتكاملت بكل تعاطف مع عقله. كان صادقاً تماماً في التعبير عن بدائل مخيلته إزاء معنى معاناة تربية الذات وتهذيب الموهبة التلقائية بروح العصامي الحيوي بتجريبيته المتواصلة، فيسقط عليها معاناة الإنسانية التي تجسدت بصيغ متباينة في محاولاته الأولى في المدرسة الابتدائية، وهو في مقتبل العمر. بدأ يدرب يده وعقله وعينيه وروحه على الرسم، متطلعا إلى الإنضواء تحت خيمة التجارب الفنية الممنهجة، فانضم عام 1989م إلى مرسم الشباب الذي تأسس عام (1980م). وتدرب على اليد الاستاذ الفنان المصري خالد محمد السيد كان مصدره الاساس ومجال تحركه وتفاعله. فشارك في مجمل معارض مرسم الشباب والورش والمناشط الفنية . وبدأ يسهم في معارض الجمعية العمانية للفنون التشكيلية منذ عام 1995م وفي المهرجانات والبينالات والترينالات العربية والدولية. ونال فيها جوائز كثيرة، واقتنيت اعماله في الرسم والسيراميك والنحت الفخاري والخزفي. محفوظة في بيت الزبير ووزارة التراث والثقافة والنادي الثقافي وجهات كثيرة خارج سلطنة عمان.
كما تبلورت ملامح حضارته الشخصية في شتى تقنيات الرسم وحسب، وكانت هناك ثغرات في مجال الخزف والحفر والملصق ألجداري ما زالت غير معالجة إذا أضيف إليها فن الجداريات. ولم تظهر أسماء فاعلة في تلك المجالات التشكيلية، وهذا ما سعى إليه موسى عمر ..إن قوة جمالية وراء (توصلات المتميزين، وهو واحد منهم) تقود إلى بلورة الكثير من أساسيات الرسم والنحت والجداريات وتسعى إلى وحدة عناصرها الفكرية ومفرداتها الرؤيوية.. ولعل التداخلات التركيبية في العمل الفني هنا يتبلور وهو مزدوج الرموز والدلالات الصياغية. فالقيمة الزخرفية التي يضمهاالعمل الفني المعالج بتقنية الرليف المحزوز او الناتيء، إنما تشكل مفردات الموضوع ودلالته، أما أبعاده، فتشكل إطارا لمضمون القيم الزخرفية.. وهذا مانجح فيه الفنان موسى عمر في معرضه الشخصي الذي افتتح مساء الخامس والعشرين من سبتمبر عام 2005م على قاعة النادي الثقافي في عمان.

طين الذاكرة
وكانت أعماله الخزفية قد انفردت بانجازها في عمان ووسمت تجربته الحيوية بهذا التوجه بعد أن استخدم خامات اخرى سوى الرسم بالزيت، نحو الفخار والخزف ( السيراميك) ومنحوتات الرليف والبراليف والشكل شبه المدور محتفظا بمفراته التراثية وثيماته واشاراته ورموزه التي بلورها في معارض الرسم الخاصة وكانت توهجات قطعه الخزفي بوحداتها التكوينية الكلية من أي اتهاه تراها وقد ارتدت حلة المشهد ااتصويري لتذكرنا بمساقط لوحاته السابقة، ومن هنا ياتي ترابط العلائق التجريبية دونما كلل عن عموم التجربة.. ولكن المتابعين لمجمل تجربته، يعتقدون بوجود تحول وقفزة باتجاه صياغة جديدة للنحت الفخاري والمزجج الذي ينتجه في هذه الفترة، والامر المستنتج لا يفسر حقيقة تواصل تجربته ذاتها بوسيلة تنفيذ أخرى كان يستعين بتقنياتها المبسطة في لوحاته الزيتية المركبة البناء والمتعددة الوسائل ، في حين ظل محتفظا بروحية مواضيع الأثيرة عن المكان .. فما بين لوحاته في المدن الحالمة ولوحاته في برزخ العزلة ، وشائج وترابط وتحول مفهوم الغرض في معمار اللوحة وفي تصميم قطع الخزف الصغيرة في معرض الخيرفهو وغن استخدم خامات مختلفة في لوحاته ابتداء من لوحاته المتعددة عن ( ليل المدن وبرزخ العزلة) ، إلا انه احتفظ بمفردات هيكل العمل الرصين وإنشائه العام، لأنها تتيح له حرية التصرف بأشكالها التركيبية وكتلها الصغيرة التي خدمت المعمار العام .. ويلعب اللون دورا رئيسا في منتجاته الخزفية بأنواعها.. إن التحولات الصياغية باتجاه جمالية الأشكال في فن الخزف جاءت نتيجة تواصله التجريبي الجاد مع صبوات تلقائية امتزجت بالروح أو الجوهر فاستلهم منها توجهاته التقنية إياها التي كان يستقيها في لوحاته السابقة، سعيا وراء تحقيق أشكال متنوعة ومتعددة ومتمايزة في معالجة الوحدات الزخرفية على مسطح القطعة الخزفية الواحدة الناتئة: (الرليف) ام (البرليف) فإنها بتوصلاته الصياغية، قد بلور وعيه الجمالي المتكيء على تجربته في الرسم الأكثر نضجا وجمالية، فساعدته بحوثه على اعتماد (ثيمات) أو ( وحدات) جديدة في التعبير عن جوهر الفن ذي الهدف والغاية..
استلهام قيم وموروث المجتمع
لعل الفنان موسى عمر، كان قد استفاد من كل ما وقع عليه نظره من عناصر نباتية و حيوانية و آدمية ونماذج من الموروث الشعبي العماني · لتحقيق الجوانب الزخرفية · إذا استبعدنا التشبيهية في تماثيله النصفية. وكما انفردت خصائص لوحاته في اعتمادها الكتابة العربية عنصرا زخرفيا ربط سائر العناصر التكميلية ضمن وحدة عامة، فإن استعانته بذلك النجاح في استخدام وسيلة الفخار والخزف في معرضه اليوم، إنما يوحي له بمخاض خصوصية التجربة في هذا المضمار كلما دل على التنوع في الأسلوب الزخرفي وزاد من جلال المنطلقات والركائز الفلسفية التي استوحت منها هذه الأشكال قيمتها الفنية.. هذه الملاحظة سوف تعجل بنمو وحدة فنية تجمع الأساليب المختلفة في محاولاته المستقبلية وتحافظ في الوقت نفسه على الفرادة والشخصية المحلية.. وفي ( فنه) وفي بحثه المتنائي عن تجارب الآخرين، تكمن الخصوصية التي نسعى إلى تحقيقها في فنوننا وثقافتنا.. وستعجل بنمو أشكال إبداعية في محيط يشترك الفنانون العرب جميعا بتقديره وتقييمه.
لقد سعى دائما إلى تعليم نفسه وصقل موهبته حرفيا ، في صناعة الخزف والفخار وعمل القوالب،والصب وتلوين التماثيل وعرف أسرار الجانب التقني ، فعمقت هذه المعرفة حبه واحترامه لفن النحت الخزفي والفخاري ، ليواصل بعد ذلك بحثه ضمن مسيرته التجريبية. إذ أن سر العمل التجريبي لا ينجلي إلا من عطاء الممارسة المتواصلة، ولا يتضح تميزه إلا بوعي الفنان، ذاتياً. بخيال خصب من خلفيته التاريخية، مستنهضاً القوة الكامنة فيها، كما ان صلته الشخصية بجماعات الفن الحديث، قد أتاحت له التعرف على الحركة التشكيلية المعاصرة، فكانت لقاءاته بالفنانين والأدباء ونقدة الفن العرب والأجانب، قد كشفت له عن بعض أسرار الفنون الجميلة التي تمس عمل الفنان بالصميم للتوصل إلى عمل فني له سماته المحلية في المحتوى، وله ملامحه الانسانية في الشكل، ليكون منسجما مع تحولات فنون العالم الراهنة، معبرا عن روح المجتمع، فتولد تجربته فيما بعد، من فيض قيمة الفن المستقبلية.
المضمون والشكل
وبعد أن مر بهذه التجربة، حلت في أعماقه مشاعر البحث عن النظام والتناسق الهادئ ليبحث عن توازن جديد، عن حيوية وحساسية مرهفة "انه ينظم إيقاعاته، بحثاً عن هويته". وقطعة الخزف عنده تخترق الحماس لتصبح قضيته الحميمة، في هذه المرحلة بالذات، وهذا هو الشعور باليقين الذي يحصل عليه أثناء العمل، فالحصول على المضمون الجيد يعني الاحتفاظ بقوة التعبير إلى جانب المضمون، ثم القدرة على التنفيذ الجيد، هذا هو نظام البناء الصحيح.". وتبدلت نظرته للقطعة الفنية، وبدأ يفهم كيف يراها ويحدد مركز العمل الفني وثقله الأساسي إزاء العناصر الثانوية الوسيطة، ويدرك عملية التوازن والتوافق بين الأجزاء، والبؤرة المركزية، بعد أن عرف طريقة تحضير الطين والشمع والجبس بصيغة حرفية متنوعة. فالفكرة الأساسية لعملية اللرسم والسيراميك هي البحث عن قيمة هذه الانواع من الفنون ذاتها، وهدم العلاقات الزائدة والحصول على الصيغة الذهبية في مجال العمل الفني. فهنا تساهم الواقعية جنباً إلى جنب مع المثالية. وينمو المضمون متصاعدا مع عناصر الشكل الفني المطلوب.

المراحل التجريبية
موسى عمر يعمل بمثابرة ليكتسب خبرة تقنية حديثة في الفن المعاصر منه، والقديم. تخلى فيها عن المعالجات التقليدية، وتوجه إلى دراسة التكوين وركز على البناء ومعمار الكتل والمساحات وعلاقة الضوء بسطوح القطع الفخارية الواحدة، بحثاً عن النظام والتناسق الهادئ وكان الاستمرار الدائب على العمل والمثابرة على الإنتاج، قد ساعده على تبلور صياغات جديدة تعالج مواضيع شعبية مستلة من الحياة والبيئة الخليجية والعمانية خاصة، إذ أنه آمن بوظيفة الفن الاجتماعية بعد أن أدرك أهمية انعكاس الفن على الحياة والمجتمع. إن صدق رؤية الفنان في التعبير ووضوح قيمة الموقف، لا يظهران إلا في الأعمال الحقيقية التي تعبر عن الأحداث المهمة في تاريخ الأمة.. من هنا أخضع معظم أعماله الخزفية والمنحوتات (البارزة) إلى قواعد ونظام وأنساق الموروث العربي الإسلامي الهندسية وتزايد اهتمامه بالفن الزخرفي والمقرنصات ، واستلهام الحروف والخط العربي وأنواع وثراء وتعدد أشكال الكتابة.. إن وضوح العناصر المساعدة في الشكل على امتداد مساحة العمل الفني هو الذي بلور مفهوم الفنان عن التجريد الزخرفي للمشاهد وأظهر التباين والتضاد في مفردات الزخرفة التي تتكرر وتتلاحق مع سائر الوحدات المكونة للشكل، وهذا جزء من التحليل المطلوب لمعمار العمل الفني الذي اعتمد على الجانب الهندسي أو الزخرفي-الهندسي، أو على الجانب الدائري، المنحني، (كالأهلة والأقواس وأنصاف الدوائر) وعلى نظام التوريق المتكرر الإيقاع، المتناظر، المتوازن، ضمن توزيع إنشائي، تحقق بطريقة التوازي الكتلوي، وتناغم الحركة بين انحدار وارتفاع.. ويلعب الضوء أهمية قصوى في التأثير على مساحة العمل الفني . وقد استثمر كل ذلك، لصالح المضمون.. ومنها استعانته برموز مقطعية، أو أبجدية حروفية أو عددية أو من خلال إيحاءات وإشارات ومفردات مألوفة ومفهومة في الخلفية الثقافية لخدمة مسطحات العمل الفني، فأستثمرها لصالح الشكل العام، في روح الزخرفة والخط العرب، وحققها بحسّ إنساني اجتماعي تاريخي، محاط بقداسة أخلاقية، هي جزء مما كان مترسبا على نحوٍ حرّ، في عالم الطفولة المنغمرة بالرموز الروحية. ومن هنا جاءت العلاقة بين الرؤية التجريدية الظاهرية والرؤية الإشارية الرمزية، المرتبطة بواقعية تعبيرية، فيعود مجدداً إلى أحلامه الملقاة في مرحلة كمون الطفولة. وفترة الشباب والقوة المتزنة والمتناسقة لمرحلة تحمل للمستقبل مسيرة نضوجه القابلة. هكذا تعكس تجربة موسى عمر الآن حضورها ونحن في نهاية عام 2006م.
بقلم الفنان الناقد : شوكت الربيعي